نظرة على التعليم الأهلي في سهل الشلف

نظرة على التعليم الأهلي في سهل الشلف  خلال النصف الأول من القرن العشرين

من المعروف أن الاستعمار الفرنسي للجزائر لم يستهدف الأرض وحدها، بما في باطنها من ثروات وبما فوقها من عمران، وإنما استهدف الشخصية الجزائرية نفسها،

مما جعله يخطط من أجل القضاء على مقوماتها الدينية واللغوية والتاريخية، وبعد مرور الزمن آمن العدو وكاد يؤمن الصديق أن الجزائر قد انسلخت كلية من الكيان العربي الإسلامي، وأصبحت قطعة من أرض الغال فرنسية اللسان مسيحية الدين.

غير أن الحقيقة غير ذلك، فقد ظل المجتمع الجزائري متمسكاً بمقومات شخصيته الحضارية، ورغم أن الاستعمار قد ضرب حوله سياجاً سميكاً ليمنعه من الاتصال بالمشرق إلا أنه كان دائم الاتصال به،

حتى قال أحد الشعراء الجزائريين المعبرين عن هذه الحقيقة.

وابن الجزائر بابن الشرق مرتبط ولو أحاطت به الأشواك أسوارا

وكان الفضل في ذلك كله يعود إلى العلماء والفقهاء الذين جاهدوا من أجل الحفاظ على شخصية الأمة وعلى تماسكها ووحدتها، وكان ذلك عن طريق التدريس الذي تميّز في تلك الفترة بمحتواه الديني والعلمي والاجتماعي.

فقد كان أولئك العلماء يجسدون ضمير المجتمع، فقدرهم حق قدرهم وبذل بسخاء من أجل نجاح مساعيهم والنهوض برسالتهم الدينية والوطنية المتمثلة في الحفاظ على العقيدة ولغة هذه العقيدة، التي وحدت القلوب ووحدت الألسن ووحدت السلوك.

ونريد أن نعرض من خلال هذه الدراسة صورة نموذجية، حية، عن هذا التدريس في صورته وفي محتواه، وفي مراميه ونتائجه.

لقد ظلت الجزائر إلى بداية القرن التاسع عشر جزءًا لا يتجزأ من العالم الإسلامي الواسع، فقد عاشت عهود ازدهاره وقوته كما عاشت أحداث تراجع المد الإسلامي وتدهور أوضاع المسلمين، وكان أكثر ما تأثرت به الجزائر في القرنين العاشر والحادي عشر من الهجرة أو السابع عشر والثامن عشر من الميلاد حادثان كبيران جداً هذا أركان الأمة الإسلامية وزعزعا تماسكها ؛ هما سقوط الأندلس وهجرة أهلها إلى بلاد المغرب العربي. وقد استقبلت الجزائر أفواج المهاجرين من الأندلس بالترحاب ولكن بانكسار الخاطر وصبر العاجز الذي لا يجد القائد والزعيم الذي يجمع قوات الأمة وهي متوفرة، ليرد بها كيد المعتدين، وما إن توفرت للأمة قيادة عسكرية قوية حتى اندفعت في تشييد الأسطول الجزائري الذي فرض نفسه كأعتى قوة في البحر الأبيض المتوسط، وهذا هو الحدث الكبير الثاني، ولكن هذا الحدث ألب على الجزائر الأعداء من كل صوب وجعلها هدفاً للاستعمار الفرنسي، ولم تجد الجزائر بدورها مثل الأندلس نصيراً من الأمة الإسلامية لما أن داهمها هذا الاستعمار الفرنسي بكل ما استطاع أن يجنده من قوة، وبكل ما حمله من حقد ووحشية وتدمير .

لقد كانت مقاومة الأمة قوية وشديدة، ولكن قوة الاستعمار وشراسته واستماتة رواده وتهالكهم على امتلاك الجزائر كانت أقوى من مقاومة الجزائريين وحدهم، لقد كانوا أجدر بهزيمة الاستعمار لو وجدوا المساعدة الضرورية من الإخوان والجيران، ولكن هؤلاء الإخوان والجيران كانوا بدورهم قد جرفهم تيار التقهقر الحضاري، فعملوا على إضعاف مقاومة الجزائريين بدل أن يعملوا على شد عضدها. والجدير بالذكر هنا هو أنه بعد أن خفتت قوة المقاومة المسلحة دون أن تنتهى – بقيت المقاومة الروحية وحدها في الميدان.

والواقع أن الاعتماد على المقاومة الروحية كان من المعتمدات الأساسية للأمة قبل هذا التاريخ، ففي رسالة الشيخ عبد الرحمن الثعالبي رحمه الله – في الجهاد نجد إشارة واضحة وكلاماً صريحاً يشير إلى مدى

تدهور الأوضاع السياسية في البلاد ومدى ضعف القادة السياسيين، مما جعله يؤكد أهمية دور العلماء والمرابطين في قيادة العامة في الحروب وفي رد غارات الأجانب، ففي هذه الرسالة التي لخصها الدكتور أبو القاسم سعد الله في كتابه عن التاريخ الثقافي للجزائر، يهيب الشيخ عبد الرحمن الثعالبي بالعلماء أن يتحملوا مسؤولياتهم أمام الله وأمام الناس لصد غارات بني الأصفر) يعني الأوربيين.

غير أن هؤلاء العلماء لم يكونوا في المستوى القيادي الذي يؤهلهم لقيادة المقاومة العسكرية، مماً اضطر بعضهم إلى الهجرة، وهذا كذلك بسبب فساد السياسة مثل الشيخ أحمد بن يحي الونشريسي الذي توجه إلى مدينة فاس، والشيخ المجاهد عبد الكريم المغيلي الذي توجه إلى بلاد السودان.

يشير الدكتور سعد الله إلى أن من لم يهاجر من أولئك العلماء قد اختار حياة العزلة والتصوف والإرشاد أو اتخذ لنفسه رباطاً لتعليم أبناء الأمة ما توفر له من علوم الدين مثل الفقه والأصول والعقيدة وقليلاً ما كانت تدرس علوم العربية مثل النحو والصرف والبلاغة.

ومع ذلك فقد كان لهؤلاء العلماء دور كبير جداً في المحافظة على تماسك المجتمع الجزائري ووحدته الدينية عقيدة وتشريعاً، وهذا بفضل وحدة التعليم مرجعاً ومنهجاً، فرغم أن أساليب التعليم كانت تقليدية تعتمد على حفظ المصنفات والتقيد بشروحها، فإن تقليدية التعليم كانت عاملاً أساسياً في وحدة الأمة عقائدياً ومذهبياً، فقد كان شعار الجميع ذلك البيت من أرجوزة ابن عاشر الذي لخص فيه المؤلف موضوع

أرجوزته حيث يقول :

في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك

فعقيدة الجميع على مذهب الأشعري، وتوجه الجميع على مذهب الإمام مالك، ودخول الجميع في طريقة الجنيد الصوفية، كما حددها الإمام الشاذلي وتلامذته من بعده.

ففي ميدان الفقه ظلت مازونة تنافس تلمسان فأنجبت هي الأخرى بعض رجال هذا العلم، ومن أهم خريجي مدرستها في آخر العهد العثماني أبو راس الناصري. ورغم مكانة بعض علماء مدينة الجزائر العلمية فإن أحداً منهم لم يستطع أن ينافس في التأليف في الفقهيات زملاءهم علماء غرب الجزائر أو شرقها.

ولم تكن الدولة الجزائرية – عندما كانت قائمة تهتم بالتعليم ولا بتطوير المجتمع اقتصادياً أو ثقافياً، وانما كانت التربية والتعليم بصفة عامة من اختصاص العائلات ويتوقفان على جهود الأفراد والمؤسسات الخيرية، فقد كان الأولياء مثلاً يقومون بتعليم أبنائهم في الكتاتيب القرآنية ثم بعد ذلك يواصل التعلم في الجوامع والزوايا من مكنته ظروفه الاقتصادية والعائلية من ذلك، بل نستطيع أن نقول بأن التعليم العالي

كان تقريباً من اختصاص أسر معلومة في بعض الأمصار، فقد كانت هذه الأسر ترغب أبناءها في مواصلة التعليم والهجرة في طلب العلم، أما عامة الناس فكانوا يقتصرون على ما تيسر لهم من حفظ القرآن الكريم وقليل من مبادئ العقيدة والفقه.

يذكر الدكتور سعد الله أنه كانت هناك بعض المدن تنمو بعدد سكانها وتشع بمدارسها ومساجدها ثقافة يتغذى منها المجتمع روحياً وعقلياً، ومن هذه المدن نذكر تلمسان وقسنطينة وبجاية ومازونة ووهران والجزائر وعنابة وبسكرة.

فقد كانت في كل مدينة من هذه المدن عائلات اشتهرت بالعلم والتأليف والدرس أو بالزهد والتصوف ومن هذه العائلات عائلة المقري والعقباني في تلمسان وعائلة ابن باديس والقنفذ في قسنطينة، وعائلة المنهالي والمشدالي في بجاية وعائلة ابن السكات في مدينة الجزائر كما اشتهرت بسكرة بعلمائها، وعرفت مازونة بعدد من الفقهاء أمثال موسى بن عيسى صاحب كتاب: ديباجة الافتخار وكتاب (حلية المسافر) وابنه يحي صاحب كتاب الدرر المكنونة في نوازل مازونة.

وكان التعليم بجميع مستوياته منتشراً في المدارس والمساجد والزوايا التي أخذت تنتشر … وكانت حلق الدروس حول كل أستاذ مشهور سواء في المدرسة أم في الجامع أم في الزاوية هي المنبع الذي ينهل منه الطلاب في القرن التاسع، وهو نفسه المنبع الذي ظل يغذي أجيال المتعلمين المسلمين بثقافة تقليدية،

ولكنها تحتوي على شرارات كامنة في إنتظار الفرصة ..

وقد كان الإقبال على التعليم مزدهراً حتى إن نسبة المتعلمين في الجزائر غداة الاحتلال كانت أرفع منها في فرنسا عينها. لكن هذا الوضع قد تغير بعد أن سيطر الاستعمار الفرنسي على معظم البلاد الجزائرية وبخاصة المدن وحواظر العلم مثل: قسنطينة وبجاية والعاصمة ووهران وتلمسان وغيرها، وقد استمرت مدرسة مازونة تبذل جهداً كبيراً في التعليم، ولعل ذلك عائد إلى أن مازونة قرية صغيرة، لا تقع جغرافياً على محور الاتصالات وهي تقع في منطقة وعرة ضيقة لم تجلب اهتمام المعمرين الذين كان همهم الاستيلاء على الأراضي الزراعية الخصبة والسهول، ولهذا استقر المعمرون إما في جنوب مازونة، أي في سهل شلف وإما في شمالها في منطقة (قرى) من سيدي محمد بن علي (رونو سابقاً) إلى تاقوريت.

ومدرسة مازونة أسسها سيدي محمد بن علي بن الشارف المازوني في بداية القرن 11هـ وقام بالتدريس فيها إلى أن توفي رحمه الله، ثم تجدد ازدهار المدرسة على يد الشيخ أبو طالب محمد بن علي في بداية القرن 12هـ وخلفه على المدرسة أخوان من أبرز تلامذته هما الشيخ أمحمد بن هني وأخوه الشيخ عبد الرحمن بن هني. واستمر التدريس متوارثاً في نسلهما إلى عهد قريب.

لقد عمرت هذه المدرسة طيلة عهد الاحتلال الفرنسي، وبذل المشرفون عليها جهداً كبيراً في بقائها مفتوحة لطلاب العلم من مختلف أنحاء الغرب الجزائري بل وحتى من المغرب الأقصى. وقد كان نظام التدريس يتمثل في الدرجة الأولى في تدريس الفقه على مختصر الشيخ خليل وشراحه.

وعلى غرار الجوامع والزوايا فإن الطلبة المسافرين أي المقيمين بالمدرسة – كانت ترتب لهم (رتبة) يتبرع بها المحسنون من أهل القرية، فكل بيت يخصص جزءاً من طعامه لطلبة المدرسة، ويكون للمدرسة كذلك صندوق تجمع فيه تبرعات المحسنين يخصص لشراء القهوة والسكر والشاي إذا اتسع لذلك، وكان نظام التغذية في مدرسة مازونة يختلف عنه في الجوامع، كما ظلت عليه العادة حتى اليوم.

وبقدر ما كان الفقهاء يمثلون دور الضغط على المجتمع وحراسة حدود السلوك الاجتماعي الذي يجب أن يراعى ولا ينبغي تجاوزه فإنهم كانوا يمثلون دور الملجا العاصم بالنسبة إلى الأفراد والجماعات الذين تواجههم مشاكل اجتماعية أو اقتصادية فقد كان الخارج عنهم بمثابة الخارج عن القانون، تهجره الجماعة وتنبذه من صفوفها، وكانت طاعتهم مثل السلوك المقبول المحترم الذي يضمن للأفراد الشعور بالانسجام مع الجماعة، ولهذا تعددت وظائفهم في المجتمع الجزائري وبخاصة بعد الاحتلال الفرنسي الذي عزل المجتمع الجزائري عن إطاره العربي الإسلامي، ونشط في عزل الجماعات المختلفة التي تكون المجتمع الجزائري نشط في عزلها بعضها عن بعض وإثارة النعرات والشقاق بينها، وهو منهج استعماري معروف.

فمنذ الصبا يرسل الطفل إلى الشيخ معلم القرآن في القرية، وفي الكتاب تتكون علاقة الطاعة المطلقة للشيخ الذي لا يكتفي بتعليم القرآن للصبية، وإنما يعلمهم كذلك قواعد السلوك الاجتماعي داخل الأسرة وخارجها، حتى أن الطفل الذي تظهر على سلوكه علامة انحراف داخل الأسرة يُرفع أمره إلى الشيخ الذي يحمله على الطاعة بالإرشاد أحياناً وبالفلقة أحياناً أخرى، والأسرة تقف دائماً إلى جانب الشيخ ضد الطفل.

فالشيخ إذن هو محل الرهبة والرغبة معاً، والسعي في اكتساب رضاه يعتبر من أهم ما يطلبه التلميذ ويصعد مع الصبي هذا الاتجاه، اتجاه احترام الشيخ والعمل على اكتساب رضاه ومودته إذا انتقل إلى التعلم في الجامع أو في الزاوية، ورضا الشيخ هنا يكتسب بأمور أهمها الطاعة والانقياد، ومنها التطوع لخدمة الشيخ والسهر على شؤونه، ومنها تقديم “الزيارة” له عندما تسمح بذلك الظروف، وتستمر هذه العلاقة حتى بعد تخرج الطالب من عند الشيخ ويجازيه.

لقد كان شيخ الكتاب هو النموذج الذي يقتدي به ويطبع سلوك الصبية منذ نشأتهم الأولى ثم يصبح هو المعلم والمرشد والطبيب، ويتولى الصلح بين المتخاصمين ويحذر بصفة خاصة من الخروج عن طاعته التي هي العلامة على طاعة الله، وكل انحراف يعد خروجاً عن الجماعة ويهدد صاحبه بالتهميش.

هذا بالنسبة إلى شيوخ الكتاتيب ومعلمي القرآن، ولكن فوق هؤلاء يوجد شيوخ أجلاء وهبوا أنفسهم لخدمة الأمة في سبيل الله، وهم يفعلون ذلك على بينة من أمرهم، وغالباً ما كان هؤلاء يجدون مساعدة وعوناً من محبي الخير من الأثرياء الذين يبنون لهم الجوامع لتعليم الطلبة المسافرين، أي الذين انتهوا من حفظ القرآن الكريم سواء في الكتاب أم في أحد جوامع حفظ القرآن التي ما تزال منتشرة حتى الآن وبخاصة في الجزء الغربي من الجزائر ، فقد كان هؤلاء الطلبة يقصدون شيخاً قد اختص في تعليم الفقه فيسجلون أنفسهم لأخذ العلم عنه.

والعلم هنا هو حفظ متن مختصر الشيخ الخليل بن إسحاق وفهم جميع الصور التي وردت في شراحه وحواشيه، وبخاصة من ذلك شرح الخرشي والدردير ولم يكن هؤلاء العلماء مدرسو الفقه كلهم في مستوى واحد، فقد باتت مراكز التعليم هذه تتوزع إلى أصول وفروع، وكانت الفروع تلتزم بالعمل على منهج الأصول، ويعتبر شيوخ الفروع أنفسهم ملتزمين أدبياً وأخلاقياً بأصولهم ويخشون أن يخرجوا عنها أو أن يظهروا بمظهر المستقل عنها، فالشيخ حتى عندما يجازى ويفتح جامعاً للتعليم فإنه يبقى ملتزماً نحو شيخه الذي أخذ عنه وأجازه، ويعتبر نفسه مستمداً منه ويخشى أن يغضب عليه شيخه فينسخ الله ما في صدره من علم.

وقد كان التوجيه الديني والأخلاقي والمنهجي ينتقل من هذه الأصول إلى فروعها، أي من مشايخ المراكز الكبرى مثل مازونة أو بعض الزوايا، إلى الطلاب الذين درسوا عندهم وفتحوا جوامع للتعليم، وينتقل من هؤلاء إلى العامة الذين يتصلون بهم ويصلونهم، وبهذه الطريقة كانت وحدة التفكير والالتزام السلوكي ينتشران من مراكز التكوين إلى فروعها ومن فروعها إلى مجال نشاط تلك الفروع في المجتمع وكانت هذه الفروع من الكثرة والانتشار بحيث تغطي جغرافياً جميع المناطق، فمدرسة مازونة مثلاً كانت تغطى بفروعها، أي بواسطة المشايخ المعلمين الذين تخرجوا منها كانت تغطي أكثر مناطق الشمال الغربي من الجزائر .

وكانت زاوية سيدي عدة مثلاً تغطي من قصر البخاري حيث الشيخ الميسوم إلى سهل غريس مروراً بالعطاف حيث الشيخ بن الشرقي بواسطة الشيخ صادق بلحميسي إلى مستغانم حيث سيدي قدور بن سليمان الخ…..

لقد كان التعليم في بداية أمر زاوية سيدي عدة بولاية تيارت مقتصراً على تعليم القرآن الكريم، وكان هم الساهرين على الزاوية لم شمل الأمة بعد الاضطراب والتشتت اللذين واجههما الشعب الجزائري بسبب الاحتلال، نجد هذا الاهتمام هو السائد في رسائل الشيخ إلى العلماء ومن كانوا يتصلون به في رقعة واسعة من الوطن، تمتد من غريس غرباً إلى قصر البخاري شرقاً مروراً بالونشريس كتاب الرسائل لأهل الوسائل) ومن بلاد الصحارى جنوباً إلى جميع المناطق التي يمر بها نهر الشلف أي من العطاف إلى مستغانم.

ولم يبدأ تدريس الفقه وبعض علوم الدين كالتفسير والحديث والتوحيد إلا بعد 1880م، وقد عرفت الزاوية من أبنائها عالمين تركا أثرهما، وهما الشيخ محمد بن المختار، والسيد الحاج الشيخ بوشملة الذي تصدى للتدريس، وتخرج على يده عدد من الفقهاء، كما كان يشرف على تعليم القرآن الكريم.

وكان بعض تلامذة السيد الحاج الشيخ قد تقلدوا مهمة الإشراف على الزاوية، فاهتم رئيسهم الشيخ محمد غلام الله بالشؤون الروحية للزاوية، واهتم إخوته بتسيير أموال الزاوية وكانوا شباباً في العشرينية من عمرهم، وأحس الشيخ محمد غلام الله بأن مهمته تتطلب تفقهاً في الدين ومزيداً من الاطلاع على الشريعة الإسلامية، فبحث عن أستاذ يخلف السيد الحاج الشيخ، فساعده الحظ على لقاء الشيح أمحمد بن عشيط المجاجي الذي كان قدم حديثاً من الأزهر، فعرض عليه الإقامة بالزاوية وتعليم أبنائها أولاً ومن رغب من غيرهم، فقبل الشيخ العرض وتوطدت بين الشيخ أمحمد بن عشيط وتلميذه الشيخ محمد غلام الله أواصر المودة واستمر اتصالهما حتى بعد ترك الشيخ بن عشيط الزاوية إلى أن توفى رحمه الله.

وقد اجتهد الشيخ محمد غلام الله في استحضار المعلمين سواء منهم من يعلم القرآن الكريم للطلبة المسافرين أم من يدرس الفقه والعلوم الشرعية. وهكذا خلف الشيخ أمحمد بن عشيط في تدريس الفقه والعلوم الشرعية الشيخ محمد الطاهر الخويدمي الذي أقام بالزاوية في جبل محنون من حدود 1912 إلى ما بعد العشرين، ولما أصبح الشيخ محمد غلام الله عضواً في اللجنة الدينية، سعى إلى تحويل الشيخ محمد الطاهر الخويدمي إلى مدينة وهران، وقد رضي الشيخ محمد الطاهر نظراً لتواضعه بوظيفة حزاب، وكان أغزر علماً ممن كانوا في الوظائف الأعلى، إذ تعلم بالأزهر وحصل من شيوخه على عدة إجازات.

كما استحضر الشيخ محمد غلام الله للتدريس في الزاوية الشيخ عبد السلام الفيقيقي الذي درس بالزاوية على فترتين، وكان الشيخ عبد السلام فقيهاً زاهداً حج بيت الله مشياً على الأقدام؛ وقد درس الفقه في مقر الزاوية في محنون ثم درس في جامع القبة، وانقطع ثم عاد للتدريس في مقر الزاوية، ومما يذكره طلبة الشيخ عبد السلام، أنه أفتى لهم بترك الفور في الطهارة الكبرى، وقال لهم : « إذا غسل أحدكم رأسه فليتعمم ثم يغسل جذعه ثم يلبس ثيابه ثم يغسل ساقيه ورجليه؛ ولما سئل كيف أن خليلاً ذكر الفور من واجبات الغسل، أجاب بأن “خليلا” لم يسكن القبة ولم يلسعه برد محنون ».

واستقدم الشيخ محمد غلام الله الشيخ عبد القادر بن الحميسي، الملقب بافعولي ونصبه مدرساً للفقه في جامع القبة حيث درس ما يربو عن 15 سنة أي إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم لما فتحت الجمعة في جامع سيدي عدة بمدينة تيارت نقل الشيخ عبد القادر بن الحميسي إلى مدينة تيارت حيث تولى التدريس والإمامة.

وممن استقدمهم الشيخ محمد غلام الله للتعليم بالزاوية، الشيخ العربي بن الخياطي الذي أقام بجامع تنفيف أي بمقر الزاوية في جبل محنون ما يربو عن الأربعين سنة، وقد سجل من الطلبة الذين شهد لهم بحفظ القرآن الكريم أكثر من 900 طالب إلى سنة 1953. وقد قدم معه ابن عمه الشيخ عبد القادر بن الخياطي الذي كان يعلم القرآن الكريم للصبيان من أبناء الزاوية.

واستقدم لتعليم القرآن في جامع القبة الشيخ أحمد العيشوتي من منطقة حرشون، والشيخ بوعبد الله بلغالي من منطقة واريزن، ولشدة شغف الشيخ محمد غلام الله بالتعليم استعمل نفوذه لما كان نائباً بالمجلس المالي للجزائر ووفر المقرات اللازمة لإنشاء مدرسة تابعة لإدارة التعليم الرسمي، الأمر الذي استفاد منه كثير من الصبيان في تعلم اللغة الفرنسية إلى جانب حفظهم القرآن الكريم ومبادئ الشريعة.

ومما تجدر الإشارة إليه، أن جميع هؤلاء المعلمين الذين استقدمهم الشيخ محمد غلام الله جاءوا من منطقة سهل الشلف وأغلبهم من ولاية الأصنام، وكان يدفع لهم مرتباتهم من مال العائلة التي كانت في عهده مجتمعة على غرار العائلات الكبيرة، والتي كان هو المتصرف فيها.

ونذكر من تلك الأصول مدرسة الشيخ الجيلالي بن عبد الحكم ( عتبة) التي اختصت بتدريس العلوم وأضافت إلى تعليم الفقه علوم العربية من نحو وصرف وبلاغة ومبادئ العروض، وهنا نفسح المجال للشيخ الجيلالي يتحدث عن نفسه كيف انتقل في مراحل التعليم قبل أن يفتح مدرسته، فألف كتابه ” المرأة الجلية في ذكر من تفرق من أولاد سيدي يحي بن صفية ما يلي :

أتى لي جدي بالشيخ السيد قدور العيشوني ابتدأت عنده قراءة القرآن، ثم المرحوم السيد الحاج محمد العباسي صهر الأستاذ السيد الحاج بن العربي نجل الشيخ بن الشرقي … ثم قرأت على الضرير السيد محمد الحنشاوي ثم على ابن عمنا محمد بن عودة ثم على السيد أحمد بن الحاج عيسى بعين امران قبيلة صبيح – ثم قرأت نحو سلكتين في آخر قراءتي على القطب والغوث السيد الحاج بن الشرقي رضي الله عنه.

ولما أذن لي في قراءة العلم، سارعت إلى قراءة الفقه والنحو على ولده السيد الحاج بن العربي بن الأستاذ السيد الحاج بن الشرقي رضي الله عنهما، فختمت عليه ختمات في الفقه في متن الشيخ خليل وفي الأجرومية وفي علم التوحيد، وكان شروعي في قراءة العلم سنة 1317.

ثم وقف على الزاوية .. ولي الله الأستاذ محمد بن أحمد السنوسي المتخرج من كلية مدرسة فاس فقرأت عليه مع أستاذي السيد الحاج بن العربي نحو خمس سنوات … ثم بعد تمام قراءتي أخذت الإذن من السيد الحاج بن الشرقي رضي الله عنه ومن ولده الحاج بن العربي ومن المرحوم الأستاذ السيد محمد السنوسي، وكان ذلك الإذن في سنة 1324

ولما فزت بالإذن ذهبت إلى مسقط رأسي ببقعة بوفلي قبيلة العطاف وأسس لي الوالد رحمه الله مدرسة، لأنه استيقظ من الغفلة التي كان أهملني بها وعرف أنني دخلت حزب العلماء… فأسس لي رحمه الله في القرية المتقدمة مدرسة علمية وقرآنية في فاتح محرم سنة 1324 إثر الإذن، وشرعت في التدريس ووفد الطلبة على المدرسة واجتهدت في التدريس غاية الاجتهاد، وما آليت جهداً فيه، وأعانني الوالد على كفاية مؤونة الطلبة، ونظمت دروس المدرسة، فجعلت يوم السبت إلى صباح الأربعاء للفقه ويوم الخميس لتدريس الفنون الصغار كالمنطق والبلاغة والصرف ماعدا إبان الصيف، فإنني جعلت في فاتح مايو لتدريس ألفية ابن مالك إلى آخر الخريف فنشرع في الفقه وهكذا ….

واجتهد الطلبة غاية الاجتهاد ووفدوا على المدرسة من الأقطار الشاسعة من ندرومة وتلمسان وأم العساكر وغليزان وسعيدة وتيارت والأصنام وناحية مليانة حتى من الغرب من الريف ومن فاس وغير ذلك ومن قسنطينة، ودمت على هذه الحال إلى أن تم لنا ثلاثون سنة من عام 1324 إلى عام 1354 وانتفع كثير من الطلبة، وأخذ بعض التلاميذ بعد قراءتهم الإذن من الشيخ بن الشرقي والبعض الإذن من السيد الحاج بن العربي، واشتهرت تلك المدرسة بتدريس فنون العلم فيها من نحو وصرف وبلاغة وفقه وتوحيد وتفسير القرآن الكريم وبالاجتهاد في تحصيل الفنون بالحفظ متونها ومطالعة شراحها وحفظ شواهدها واستحضار مسائلها … وجعلت معيدين للدروس وبذلت قصارى جهدي في تهذيب الطلبة وتأديبهم.

وأسست احتفالاً سنوياً في تلك المدرسة يجعل آخر فصل الصيف، يخرج فيه الطلبة الذين لهم اقتدار على التدريس ونعقد لهم امتحاناً، ويحضر هذا الاحتفال والامتحان كثير من الناس مثل علماء عين الدفلى والأصنام وغليزان وغير ذلك، وحصل النفع في تلك المدرسة حتى نجح مدة ثلاثين سنة ما يفوق مائتي تلميذ حصلوا على مرغوبهم فأجيزوا ورجعوا إلى أهليهم بعلوم صحيحة حييت بهم البلاد وانتفع بها العباد. ودمت على تلك الحال إلى عام 1341 صرت أسافر إلى الأصنام وألقي دروساً يومين في الأسبوع، عشية الجمعة وصباح السبت.

وعن مدرسة الشيخ الجيلالي بن عبد الحكيم في مدينة الأصنام (شلف حالياً) يقول ولده السيد أحمد عتبة ما يلي: أسسها مديرها السيد الجيلالي بن الجيلاني بن عبد الحكيم عام 1354 في 15 من شعبان وفق 14 أكتوبر 1935.

كانت تلك المدرسة بجنوب المدينة، وكان لفتح تلك المدرسة يوم مشهود حضره العلماء والقراء ورؤساء الناس … قال الوالد رحمه الله : ” فجعلت لولدي الأستاذ ابن الشرقي درساً في الصباح” وقد توفي عام 1361 رحمه الله، وخلفه في دروسه شقيقه ولدنا السيد أحمد أطال الله عمره في طاعة الله وسنة رسوله؛ وعين السيد أحمد بن عبد الله يقرأ درساً، أما الوالد فكان درسه النظامي عشية وبعد المغرب يجعل درساً في تفسير القرآن الكريم ويذيله بحديث من الجامع الصغير، هكذا كان دأب الشيخ في تسيير الدروس في تلك المدرسة وطار صيت تلك المدرسة وطلعت شمسها وهرع إليها الطلبة من كل جانب وكثيراً ما كان يزورها ولي الله المعظم الشيخ سيدي محمد غلام الله بن سيدي عدة مصحوباً بأخيه ولي الله العلامة سيدي الحاج محمد وقرأ فيها من أنجال سيدي عدة السيد أبو عبد الله بن المختار والسيد عدة بن سيدي محمد ويضيف الشيخ أحمد عتبه رحمه الله ما يلي :

في سنة 1954 اثر زلزال الأصنام انتقل الشيخ الجيلالي بأهله إلى مدينة غليزان حيث فتح المدرسة للطلبة في جامع هيأه له المحسن الحاج محمد العماري، وكان الشيخ يلقي دروسه في هذا الجامع ويساعده في ذلك ولده السيد أحمد، كما يساعده بعض الطلبة نذكر منهم السيد الحاج قدور الرياحي نزيل مستغانم، وقد توفي الشيخ الجيلالي رحمه الله سنة 1965.

هذه عينة من مدارس الأصول، فإذا أردنا أن نذكر مدارس الفروع فإن عددها لا يكاد يحصى، لأن بعضها لم يعمر إلا قليلاً، وبعضها قد اندثر دون أن يدون في كتاب ولا أن تحفظه ذاكرة مثل الكثير من أحداث الجزائر .

لقد انتشر طلبة هذه المراكز بعد أن عادوا إلى أهليهم، واجتهد كل واحد منهم لأن يقلد شيخه وأن يفتح بدوره جامعاً يرتب فيه الطلبة المسافرون وينقطعون لدراسة العلم، والعلم يعني الفقه والفقه يعني دراسة مختصر الشيخ خليل وشراحه.

وهكذا يمكن أن نحصي في منطقة صبيح مثلا:

الشيخ أحمد بوجدية بن زخروفة طلبة مسافرون في الفترة ما بين 1915-1945، تقريباً. الحاج عبد القادر بن حورة (غزالي) في سيدي خليفة الشارف طلبة مسافرون في الفترة ما بين .1945-1930

الشيخ أحمد بن رابح الصبحة تدريس وإفتاء – ابتداء من 1940 إلى أن توفي رحمه الله سنة .1993

الشيخ الميلود البوشعيي في منطقة تاوقريت – تعلم في الأزهر .

الشيخ عبد القادر بن عمرو في الطواهرية في الفترة ما بعد 1930.

الشيخ سيدي ابراهيم – في العوانة، ثم خلفه الشيخ محمد بلفيل إلى أن توفي سنة 1980.

الشيخ الحاج أحمد هجان – في عين أمران – ما يزال يعمل حتى الآن.

وإذا أردنا أن نأخذ عينة أخرى من منطقة عمي موسى فإنا نذكر ما أمكننا أن نحصل عليه بمساعدة الشيخ محمد زروقي الذي يعمل حالياً في جامع الزاوية قرب وادي ارهيو، والذي أخرج للسلك الديني أكثر من 100 إطار، ولديه طلاب يتعلمون الفقه وعلوم العربية.

إن منطقة عمي موسى كغيرها من المناطق الداخلية التي اعتصم بها العلماء، وجمعوا الأمة على كلمة الله محذرين إياها من الانصياع وراء عوامل التدمير والاندثار سواء كان مصدرها القهر الاستعماري أم التشويه الحضاري المزيف.

فمن هؤلاء العلماء ما وصلت إلينا أسماؤهم وأعمالهم بالتواتر، وما وجدناه من آثارهم في الوثائق والمخطوطات المتوفرة، وهم:

السيد الصحراوي وأخوه السيد البغدادي ابنا السيد الزروقي القاسمي، درسا الفقه على السيد الحاج الشيخ بزاوية سيدي عدة، وتخرجا منها في أواخر القرن التاسع عشر وقاما بتدريس الفقه في قرية أولاد الشيخ من بلدية الرمكة حالياً، وكانا يقومان بالإفتاء والتوثيق وإصلاح ذات البين بين الناس في الأعراش المجاورة مثل أولاد دفلتين، مطماطة وأولاد موجار والعجامة وبني وعزان الخ… وقاما بالتدريس إلى حدود .1920 وكانت توثيقات السيد الصحراوي نافذة لدى قاضي محكمة عمي موسى، حتى إنه كان يدعى (القاضي المفوض).

ومن بعدهما قام مقامهما أبناؤهما السيدان : الشيخ البغدادي بن الصحراوي والشيخ محمد بن البغدادي. وقد عاصرهما الشيخ الحاج بلقاسم قسوس العمراوي، غير أن هذا لم يعرف عنه أنه علم الفقه، وإنما اقتصر نشاطه على الإفتاء والتوثيق، ثم خلفه ابنه السيد أحمد بن الحاج بلقاسم. وقد عرفت بلدية الرمكة حالياً كلاً من الشيخ محمد بن علي من دوار أولاد الشيخ، والشيخ خليل من دوار عشعاشة، وقام كل منهما بالفتوى والتوثيق والصلح بين الناس. وقد توفي السيد محمد بن البغدادي سنة 1941 وخلفه أخوه السيد الشيخ بن البغدادي إلى أن استشهد في ثورة التحرير سنة 1959.

أما الشيخ البغدادي بن الصحراوي فقد توفي سنة 1946 ثم خلفه ابنه السيد الصحراوي الذي تولى التعليم من سنة 1954 إلى أن توفي سنة 1978 ، وقد تولى الإمامة في مسجد أولاد الشيخ.

وآخرهم الشيخ بوعلام غلام الله من قرية القلاصنة ناحية بوقادير ، تعلم في الزيتونة وحضر دروس الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة ثم تولى الإمامة في مسجد عمي موسى، حيث درس الفقه وعلوم اللغة والعقيدة والتفسير والحساب للطلبة المسافرين من سنة 1964 إلى أن توفي رحمه الله سنة

.1994

ونذكر من العلماء الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمد بن الطاهر الذي ذكرناه درس في زاوية سيدي عدة، فقد قام الشيخ عبد الرحمن بتدريس الفقه وعلوم اللغة العربية في الجامع الذي يحمل اسم أبيه قرب جديوية على طريق أولاد يعيش، كما قام بالتوثيق والإفتاء والصلح بين الناس إلى أن استشهد وهو جندي في جيش التحرير الوطني.

ونذكر الشيخ خليفة بن يحي من قرية الهرانفة الذي كان يعلم في الجامع التابع لزاوية سيدي عدة في واد ارهيو والذي أسسه الشيخ محمد غلام الله في العشرينات، فقد علم من 1948 إلى سنة 1986.

فإذا انتقلنا إلى قبيلة فليتة، ورجعنا إلى المشائخ المعاصرين فقط فإننا نجد في مقدمتهم الشيخ بن عبد الله بن شايب الذراع، فقد تخرج من مدرسة مازونة ولما عاد إلى أهله فتح جامعا للطلبة المسافرين في قرية أولاد راشد قرب الرحوية، وقد درس في الفترة ما بين 1930 إلى 1970 ، كان يلقي درسين أحدهما

في الصباح وثانيهما بعد العصر.

وكان يؤوي الطلبة ويطعمهم من بيته، وكان عدد طلبته يتراوح بين 15 و 20 طالباً، وكان مثالاً للورع والوفاء لأشياخه، إذ كان من عادته أن يخصص فترة للراحة سنوياً، يعود فيها الطلبة إلى ذويهم، أما الشيخ فيمتطي راحلته يتجول بين أضرحة الصالحين مثل سيدي أمحمد بن عودة وسيدي يحي أمحمد بن خدة، حتى إذا انتهى من طوافه هذا ترك راحلته وتوجه إلى زيارة شيوخه في مازونة.

وكان ابن عمه الشيخ بلقاسم بن شايب الذراع قد فتح جامعا للطلبة في رحوية، ولم يكن جامعه منافساً لجامع ابن عمه، وإنما كان مكملا له وكان كل منهما يتواضع لابن عمه، حتى إن أحدهما إذا استفتى وجه سائله إلى الآخر حتى يعلم كل منهما رأي الآخر في سؤال السائل، فتتفق فتواهما، ولا تختلف، وبذلك يتجنبان فضول الباحثين عن الرخص في فتاوى العلماء.

وفي قرية مغيلة قام الشيخ أحمد بن الحاج العربي بالتدريس والإفتاء في السوق، وكان من خريجي مدرسة الشيخ الجيلالي بن عبد الحكم في الأصنام.

وفي مدينة تيارت تولى تدريس الفقه للطلبة المسافرين كل من الشيخ الزين بلقدري الذي تخرج من زاوية الشيخ بن طكوك في العرعار قرب بوقيراط وعاصره الشيخ عبد القادر بن الحميسي (فغولي) الذي قدم إلى المدينة بعد أن درس مدة طويلة في جامع القبة التابع لزاوية سيدي عدة، وقد مات شهيداً في ثورة التحرير رحمه الله.

وفي العشرينيات من هذا القرن، عرف الشيخ الحاج الأخضر في مشرع الصفا، فقد كان جامعه قرب سد بن خدة، وكان يتولى تعليم القرآن الكريم بالإضافة إلى تدريس الفقه.

ومن فقهاء المنطقة الشيخ عبد القادر بن الميهوب في عرش حلوية، كان فقيها يفتي للناس ويفك الخصومات، ويقسم الزكاة، وكان يساهم في حل مشاكل الناس باجتهاده، ومن ذلك فتواه في الطلاق ثلاثاً، فكان يرد المطلقة ثلاثاً إذا كان في لفظة واحدة، وكان يهمه لم شمل العائلة ولا يرضيه أن تتشتت بسبب لفظة طائشة خرجت من فم فظي جهول، وقد لقي عنتاً كبيراً، وشهر به فقهاء وقته حتى ظن بعض الناس أنه صاحب مذهب منحرف، لا يصلى وراءه ولا تقبل شهادته، ومع ذلك ظل متمسكاً برأيه واعياً لموقفه، ولعله أفتى بعض منتقديه لما أن طلق زوجته ثلاثاً بلفظة واحدة واضطر إلى مراجعتها، وكان يحرر فتواه حتى يتحمل تبعتها وحده. وقد توفي رحمه الله في نهاية الأربعينات من هذا القرن.

أما بخصوص آثار الفقهاء، فإن الإشارة تجدر إلى أن الكتابة في الشرعيات عامة وفي الفقهيات بصفة خاصة، قد قلت في القرن الثاني عشر الهجري وما بعده، وأصبح العلماء يقتصرون في جهودهم على التدريس.

وإذا كتبوا ففي التوثيق أو في بعض الفتاوى التي يرون أنها تستحق الاهتمام بها لما فيها من تحمل المسؤوليات، من ذلك مثلا الفتاوى المتعلقة برد المطلقة ثلاثا، وفيما يتعلق بالأوقاف؛ ذلك أن نظام الاقتصاد الزراعي يقتضي الحفاظ على الأرض الزراعية ضمن العائلة، ويرى الناس أن دخول الغريب فيها سواء عن طريق النسب عندما يتزوج الغرباء من بنات مالك الأرض، أم عن طريق البيع والرهن عندما يضطر الورثة إلى ذلك وغيره مما يؤدي إلى تفتيت الأرض وضياعها. ولهذا عمد أرباب العائلات المالكة إلى وقف أملاكها على أولادهم الذكور فقط دون الإناث.

هذا؛ ولقد توقف علماء القرن الثاني عشر عن التأليف وحتى عن كتابة النوازل وتسجيل الفتاوى إلا نادراً، ولم يجعلوا ذلك في مؤلف مستقل ومتكامل، وإنما بقي ما كتبوه من فتاوى مبعثرة هنا وهناك مثل العقود وغيرها، وكان بعض الناس عندما تواجههم معضلة يتوجهون إلى الفقهاء لحل معضلاتهم، ويعرضون منازعاتهم على هؤلاء الفقهاء، وينتظرون منهم حكم الله في الموضوع وكثيراً ما كان لهؤلاء الفقهاء الفضل في حل النزاعات القائمة بين العائلات.

ففي مرحلة أولى كان الفقهاء هم القضاة الذين يفصلون في جميع النزاعات، ولم يكن هناك قضاة رسميون في كل مكان، وإن وجدوا في بعض المدن، فإن أهل الريف لا يلجأون إليهم، وإنما يفضلون التقاضي إلى الفقهاء.

ولهذا كان الفقهاء يجلسون للناس في الأسواق الأسبوعية يستمعون إليهم ويفكون نزاعاتهم، وكثيراً ما كانوا يفتونهم في الأمور التي تتعلق بالطهارة والصلاة والصوم والكفارات وغيرها، كانت هذه المحاكم تنصب في الأسواق الأسبوعية، وكما أن لكل قبيلة أو عرش سوقاً أسبوعية فإن لكل قبيلة أو عرش فقيها

يجلس لفك المنازعات في الأسواق. كان بعض هؤلاء الفقهاء من المدرسين الذي يعلمون الطلبة المسافرين في الجوامع، وفي أيام السوق يتوجهون إلى حيث يجتمع الناس لإفتائهم وفك منازعاتهم، وكان بعضهم يعقد درساً للوعظ والإرشاد، نظراً إلى أن صلاة الجمعة لم تكن تقام في معظم البوادي.

وكان بعض الفقهاء ممن أذن لهم أساتذتهم المدرسون بالجلوس إلى الناس وإفتائهم وفك خصوماتهم وكانوا ينكرون على من يتصدى للفتوى، وبخاصة في الأسواق دون إذن من شيخه.

وبالإضافة إلى الفتوى وفك الخصومات كان الفقهاء يقومون بوظيفة التوثيق، فيسجلون عقود البيع والكراء والرهن حتى أن المحاكم الرسمية في عهد الاحتلال كانت تضطر إلى أخذ هذه العقود بعين الاعتبار، بل واضطرت إلى أن ترخص لبعض الفقهاء المعروفين في قراهم بأن يوثقوا بشرط أن يسجلوا وثائقهم على أوراق مدموغة حتى يضمنوا بذلك توفير رسوم العقد للدولة، وكانت هذه المحاكم ترفض الاعتراف بالعقد إذا لم يأت مسجلا على ورقة رسمية مدموغة. وكما وجدوا حلا لمشكل الحبس وجد بعضهم حلا لمشكل طلاق الثلاث، وإن لم يحرز الإجماع، بل إن أغلب الفقهاء كانوا يرفضون رد الزوجة المطلقة ثلاثا وكانوا ينكرون على من تجرأ منهم على ذلك وأفتى بردها كما رأينا مع الشيخ عبد القادر بن ميهوب الحلوى.

وبفضل هذا النشاط العلمي والديني تمكن العلماء في البوادي من ترسيخ العقيدة الإسلامية في ضمائر المجتمع الجزائري، حتى أصبح الجزائري لا يرضى بدينه بديلا ، وكثيرا ما كانت تضطرهم ظروف الحياة إلى التجنس بالجنسية الفرنسية، ومع ذلك كان أغلب الجزائريين يفضلون التضحية بدنياهم في سبيل دينهم.

نعم يمكن أن يؤخذ على هؤلاء الفقهاء جميعهم أنهم ورثوا ثقافة عصر الانحطاط، وأنهم أوقفوا جهودهم على حفظ المصنفات وشرحها دون أن يحاولوا التفكير في شؤون العصر ولا في العلوم التي تتقدم من حولهم وأنهم بذلك حصروا الأمة في مفاهيمهم وفتاواهم التقليدية القديمة؛ والواقع أن القضية هنا لا ينبغي منهجياً – أن ينظر إليها معزولة عن سياقها؛ إن العزلة الخانقة التي فرضها الاحتلال الاستعماري على الجزائر جردت المجتمع الجزائري من كل وسائل الدفاع فلم يبق له إلا هذا الانطواء على الذات والتمسك بما بقي له من الجانب الروحي، إن الغريزة هنا تعوض الذكاء المفقود، لأن البحث والتفتح والنمو والتطور من وظائف الذكاء، فإذا تعطل الذكاء فقد أصبح الجهد كله موجهاً إلى المحافظة على البقاء، وأجل البحث عن التطور إلى حينه.

وإذا كانت الأمية والجهل والفقر هي السمات الأساسية التي كانت تطبع المجتمع الجزائري المحصور في البوادي أثناء الاحتلال الفرنسي فإن من أتاح لهم الاستعمار النفاد إلى المدن بسبب حاجاته إلى خدماتهم، وبخاصة من جندهم طوعاً أو كرهاً وبعث بهم إلى أتون الحرب العالمية الأولى، فمن نجا من هؤلاء من الموت وعاد أتيحت لهم الفرصة للإقامة في المدن، وذهب أبناؤهم إلى المدارس الفرنسية فتلقوا تعليماً انتقائياً موجهاً” جعل منهم شباباً تنكر أغلبهم لأمتهم وثقافتهم، وتعلقوا بفرنسا تعلقاً جعلهم يحتقرون أنفسهم ودينهم وكل ما يمت بصلة إلى ماضيهم العريق.

ورغم ما بذلته حركة النهضة الوطنية من جهود لنفض الغبار عن القيم الإسلامية، وإخراجها نقية سليمة فإن ذلك لم يثن المعلمين المفرنسين عن تعلقهم بسياسة الإدماج التي أصبحوا يطالبون بها وإنما ظلوا يعادون فكرة الأمة الجزائرية بل وإن منهم من استمالته حجج المبربرين والمستشرقين كما يقول الأستاذ محفوظ قداش – فظل مثلهم الأعلى هو الحصول على الجنسية الفرنسية التي حجبت عنهم فرادی، فأرادوا أن تمنح لهم بصفة آلية متى اتخذ القرار بإلحاق الجزائر نهائياً بفرنسا وهو المطلب الذي كان يرفضه الوطنيون.

إن هؤلاء بدورهم ضحايا، لأنهم لم يحصلوا من العلم والثقافة إلا ما تبرع به عليهم المستعمر، وما أشبه اليوم بالبارحة.

إن الوضع التاريخي الذي وجد الجزائريون أنفسهم فيه كان يفرض عليهم أحد اختيارين لا ثالث لهما، إما أن تقبع سجينا في وطنك ودينك وثقافتك لا تفارقها ولا تضيف عليها، وإما أن تخرج منها نهائياً إلى وطن ودين وثقافة لا تعرفها .

يجب على الأمة الإسلامية عامة وعلى الشعب الجزائري بصفة خاصة أن يعترف لهذه الفئة من المجاهدين بالكلمة والموقف بالفضل الكبير، لأنهم حافظوا على وحدة الشعب وعلى عقيدته وتمسكه بالدين والوطن إلى أن قيض الله له من الحركة الوطنية الحديثة ما جعله يبصر النور ويحدد لنفسه طريق التحرر والانعتاق.

وما أشد حاجة الأمة اليوم إلى مثل هؤلاء المجاهدين الذين كانت قوتهم تكمن في نكران الذات وفي الإقدام على التضحية بالنفس والنفيس في سبيل دينهم وأمتهم ما أشد حاجتها إلى مثلهم في مواجهة الغزو الثقافي وفي رد هجمات التشويه الثقافي والانحراف الديني والفساد العقائدي وفي سيادة النزعات الفردية على القيم الجماعية، والجرأة على بيع الدين والوطن والكيد لهما أو تحطيمهما في سبيل مصلحة دنيوية لا تلبث أن تتلاشى وتزول.

 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *