محاضرة الدكتور بوعبد الله غلام الله ـــ رئيس المجلس الإسلامي الأعلى ـــ في جلسات رمضانية “الحوار والتعايش”
إن الثقافة الإسلامية أساسها القرآن الكريم الذي أسس للحوار بين الديانات. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو أهل الكتاب إلى المحاورة من ذلك قوله تعالى “ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ” آل عمران 64 كما خاطب القرآن الكريم من كان دينهم الوثنية ” إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، أَلَهُمۡ أَرۡجُلٞ يَمۡشُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ أَيۡدٖ يَبۡطِشُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ أَعۡيُنٞ يُبۡصِرُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ آذانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۗ قُلِ ٱدۡعُواْ شُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ” الاعراف 194- 195
ومن جهة أخرى فإن القرآن الكريم قد توجه إلى الناس كافة فأخبرهم بقوله تعالى ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” الحجرات 13.
والتعارف لا يتم إلا بالحوار الذي يتوصل به إلى التعاون وتبادل المعلومات والمنافع.
ونجد القرآن يضع المتحاورين ابتداء على نفس المسافة من الموضوع فهو لا يحاور من الاستعلاء وإنما هي محاورة الند للند، الذي يبحث عن الحقيقة وليس الذي يريد فرض حقيقته، قال الله تعالى:” وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” سبإ الآية 24.
فمما سبق يظهر واضحا أن الثقافة الاسلامية تقوم أساسا على الحوار ومخاطبة العقول والضمائر، وتعمل على ترسيخ ثقافة التعايش والتسامح بين الأديان والثقافات وهذه صحيفة المدينة شاهد على ذلك وقد دأب المسلمون على مدى قرون من انتشار حضارتهم وازدهار ثقافتهم يمارسون ثقافة الحوار، مثل ما يروى عن الامام الشافعي – رضي الله عنه أنه قال رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. ونتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.
وفي عصرنا الحاضر أصبح الحوار ضرورة قصوى للتعاطي مع الأزمات الطارئة وانتشار وسائل الاعلام والتواصل وتدفق المعلومات وتداخل الحضارات وتمازج الثقافات وما نجم عن ذلك من مظاهر القلق ومن تفاقم الجرائم الارهابية والجريمة المنظمة وانتشار العدوان وغياب الأمن، وبخاصة بعد ظهور فكرة صدام الحضارات التي استنفرت جميع الذين يتفاءلون بمستقبل زاهر للإنسانية قائم على منتجات العلوم.
لقد صدمت تلك الأفكار الهدامة شعور مختلف الشعوب وأثارت القلق من اشتداد طغيان القوة المادية التي تريد أن تخضع الشعوب المستضعفة بما تملكه القوى الطاغية من وسائل القهر ومظاهر الاستكبار.
وقد صور الباحث المغربي الدكتور محمد الكتاني وضع العالم الاسلامي الذي وصفه بالهش المضطرب حيث يقول: “في هذه الظرفية العالمية العصيبة، وجد العالم الإسلامي نفسه في صميم الأزمة الحضارية. فهو مهدد في وجوده الديني، وهويات شعوبه الثقافية. ومحكوم بشتى الإكراهات الدولية، والتجاذبات الاستقطابية، والاسلام الذي هو قوام هويته ورصيده الحضاري ومصدر اعتزازه، متهم في الذهنية الغربية بكونه دين التطرف والاقصاء، والمصدر الرئيسي لحركات الارهاب في العالم.
لقد أخذت ردود الفعل لدى المسلمين تجاه كل أشكال العدوان على ديارهم . والضغوط الاقتصادية على شعوبهم، والافتراء على دينهم مظاهر شتى. منها انبثاق الحركات الأصولية، والعنف ضد الأنظمة الوطنية المنقادة، أو الملاينة للهيمنة الغربية، لا سيما بعد أن أصبحت هذه الهيمنة تجسدها القطبية العالمية. وكان رد الفعل واضحا في الموقف الأصولي، الذي انتهى إلى إنشاء “قاعدة” لزعزعة الأمن، في العالم بنشر خلايا الارهاب، وتدمير المنشآت واغتيال الأبرياء داخل المجتمعات الغربية أو الإسلامية على حد سواء. و ذلك كله باسم “الاسلام”. ولا شك في أن التداعيات التي أفرزتها أحداث إرهابية مروعة في عدة جهات من العالم، فرضت على الحكومات الوطنية في البلدان الإسلامية الأخذ بمنطق الهاجس الأمني. فضلا عن الدول الغربية التي طالها الارهاب وغدا كابوسا يهيمن على حياتها”[1].
يبدو أن هذا التدهور ناجم عن فشل الحلول التي اقترحها الاصلاحيون، لأنها حلول غير موضوعية، تهدف إلى ترسيخ القديم بالرجوع إليه بدل تجاوزه للأخذ بما يفرزه تطور العلوم الاجتماعية والثقافة السياسية.
يقول الدكتور محفوظ سماتي: “إن المجتمع الحديث أسس في غيابنا، وأنتج مفاهيم فرضت علينا فلم تستوعبها ثقافتنا ولم يتمثلها فكرنا ورغم هذا نمارسها دون اقتناع ودون فهم حقيقي لوظيفتها، من ذلك مثلا مصطلحات حديثة مثل “المواطنة”، فهي تعطى للمواطن كامل حقوق المواطنين وتلزمه بواجبات يلتزم بها جميع المواطنين.. كما تمنحه جنسية تربطه بالوطن دون اعتبار جنسه أو عقيدته أو لونه[2].
إن مثل هذا المفهوم يتجاوز مفهوم ” الذمة” التي كان يدخل تحتها غير المسلمين في المجتمع المسلم، والذي حاول بعض رجال الاصلاح أن يبررها كما فعل السيد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار إذ يقول” إنها جزاء حماية غير المسلمين في المجتمع المسلم والدفاع عنهم من غير تكليفهم التجند معنا”
إن مثل هذه الفكرة التي يفرضها الواقع في العصور السابقة لم يعد لها مجال بعد أن تغير هذا الواقع في العصر الحديث. إن الفكر الاسلامي مازال يحتفظ بفكرة “الحق والواجب” التي تعبرعن مبدأ انساني قائم تغيرت ملابساته، وظل قائما في جوهره.
إن مبدأ الحق الناجم عن القيام بالواجب مبدأ إسلامي خالد سواء بالنسبة إلى ما وعد به المسلمون العاملون من جزاء يوم القيامة أو بالنسبة إلى ما يناله المواطن الذي أدى واجبه في المجتمع من جزاء مقابل ذلك.
إن عدم مراعاة تطبيقات هذا المبدأ الثابت القويم قد تسبب في احداث خلل في انسجام المجتمع وتماسكه مما يعد أكبر سبب في ظهور الفساد في المجتمع.
هناك فرق شاسع بين الحق والحظ، فكلما كان الحق يقوم على الميزان المقام بالقسط كان الحظ شأنه الاضطراب وتقلبات الأحوال ومبدأ الحق ينتشر وينمو في المجتمع بالتربية والتكوين، وهو عامل قوي في احداث التماسك الاجتماعي، وانتشار ثقافة التعايش وحسن الجوار والمبادلات .. ويستقيم توازن المجتمع وازدهاره إذا أخذت كل فئة بعين الاعتبار حاجة بقية الفئات ومطالبها، ذلك أن نشاط كل فئة يعد في معظمه لصالح بقية الفئات، ولخص ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول ” مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”.
أين هذه الثقافة الايمائية الفعالة من ثقافة الصراع والجري وراء المنافع العاجلة الخاصة دون أخذ حقوق الآخرين وحاجاتهم واحترامهم بعين الاعتبار.
كل مجتمع منظم إنما يتشكل من نظام تتقاسم فيه الأعمال والمهام، بعضها تنظيمي وبعضها انتاجي، فالتنظيمي يحفظ المجتمع من العدوان عليه ويقيم التوازن بين مكوناته وأعضائه فلا تغلب فئة على فئة ولا تسيطر جماعة على أخرى.
وأما الانتاجي فهو الذي يتولى توفير الخيرات التي يستخرجها من الأرض بالزراعة والصناعة ، فإذا كان القائمون على التنظيم يسعون إلى الاستيلاء على ما تنتجه الفئة العاملة ولا يألون بالهم إلى حاجات الفاعلين فيها الخاصة بهم كمواطنين ولا الحاجات التي تمكنهم من رفع انتاجهم وزيادة ربحهم. فإن هؤلاء سوف يجتهدون بدورهم إما في تقليص الانتاج وغلق مؤسساتهم أو الهروب بها إلى الخارج.وإما في أن يواجهوا المضايقات المسلطة عليهم باستمالة عناصر من الفئة المنظمة بإغرائهم وتوفير منافع لهم، لا يحصلون عليها من مناصب عملهم فيحدثون بذلك خللا في صفوف التنظيم ويضعف أداء الفئة المنظمة فتتخلخل صفوف المجتمع الذي يفقد توازنه وتماسكه وتذهب ريحه.
إن المجتمعات الاسلامية يتخبط معظمها اليوم في متاهات ولا تجد السبيل إلى الانفكاك منها.
يؤكد مالك بن نبي أن غياب هذا المبدأ ( مبدأ علاقة الحق بالواجب) يؤدي إلى اختلال التوازن في المجتمع الذي يتعلق بالأشياء ويتخلى عن الأفكار، ذلك أن غنى المجتمع وثروته لا يقاس بما يملكه من الأشياء، وإنما يقاس بمقدار ما يملكه من الأفكار، فهناك علاقة عكسية بين “عالم الأشياء” وبين “عالم الأفكار”، فعندما يبلغ المجتمع الذروة في الحضارة ويشتد تعلق الناس بالماديات ويتنافسون عليها، تذبل في عقولهم الأفكار التي تفقد أهميتها ويفقد المجتمع وظيفته في بناء صروحه فيصبح قابلا للانحطاط والتخلف وتهيئه ظروفه البائسة ليكون مطمعا لغيره من المجتمعات التي تتطلع إلى توسيع نفوذها وبسط سيطرتها. مما يعبر عنه اليوم بظاهرة الاستعمار.
اليوم في مثل هذا الاضطراب الذي يزيده في المجتمع الاسلامي حدة وتخلخلا إصرار القوة الضاغطة على تفكيك أوصاله ومنعه من الانتباه إلى مصادر قوته المتمثلة في موقعه الجغرافي في مركز العالم ( من طنجة إلى جاكرتا) وتتخذ تلك القوة الضاغطة أساليب لا تخفى على من كان له قلب أو ألقى السمع، فتعمل على تعميق الخلاف بين المسلمين بسبب اختلاف مذاهبهم أي تحرمهم من الثروة الحقيقية التي تكونت لديهم عبر عصور ازدهارهم، وتجعل خيرات أوطانهم سببا في الصراع والخلاف الذي يذهب ريحهم ويفقدهم قوتهم، ومن خضم هذا الاضطراب والانبهات، توقظ تلك القوى المهيمنة من داخل المجتمعات الاسلامية عناصر ناقمة، محرومة لتنشر الرعب والخوف وتحدث الدمار وتؤجج الخلاف مدعية أنها قائمة على الحق، أو يقال لها أنها قائمة على الحق، والحق فيها برئ .
[1] . القبول بالتعددية الثقافية والحوار الحضاري تحت إشراف عبد الحق عزوزي ص 54.
[2] . مجلة الثقافة الاسلامية، العدد16 سنة 2020 ص 306 .