التســامح في الحضارة الإسلامية(2)

جميع الحقوق محفوظة لموقع www.bestfreecv.com

هذا الوسط الديني المفعم بالروح الإسلامية السامية، طبعه والداه الكريمان، وبخاصة منهما والدته الكريمة (لالا الزهراء) لقد كانت مواقف هذه السيدة الكريمة مع الأسرى تثير تقديرا وإعجابا كبيرين، فقد كانت تعتبر الإحسان إليهم واجبا دينيا مقدسا، فكانت تتولى هي شخصيا أمر الأسيرات من النساء، ومن حرصها على حسن معاملتهن، كانت تضرب لهن خيمة بجوار خيمتها لتسهر يوميا على خدمتهن، ولم تكن تسمح لأحد بالإقتراب منهن دون إذن منها، مهما تكن رتبته.

وكانت هذه المعاملة الإنسانية تصل جنود وضباط الجيش الفرنسي، ومهما يحاولوا إخفاء شعورهم بالتقدير والإعجاب بهذه المعاملة الإنسانية التي لم يألفوها، فإن شهادات بعض الضباط الذين كتبوا مذكراتهم تؤكد هذا التقدير وهذا الإعجاب الذي كان يسكن في الضمائر والنفوس.

كتب أحد الضباط الفرنسيين وقع أسيرا في أيدي المقاومين الجزائريين، وقد نزل مع مجموعة من الأسرى قريبا من المكان الذي كانت تقيم فيه والدة الأمير عبد القادر ، فقال إن هذه السيدة العظيمة أدت لهم زيارة  فكانت غاية في الأدب واللطف ، وكانت حريصة على أن تبلغ لنا كلمات، فقد قالت لنا : *ماذا جئتم تفعلون في بلادنا؟ هذا البلد كان مطمئنا وأهله لا يضمرون الشر لأحد، يحبون السلم والسلام والخير لجميع الناس، فانظروا ماذا صنعتم به، هل ترضيكم الدماء والدموع والموت والخراب ؟كل ما أرجوه هو أن تعودوا إلى أهليكم سالمين وتنتهي هذه الحرب البشعة التي فرضتموها علينا فرضا*

يقول هذا الضابط بعد ذلك:)لقد كانت هذه الكلمات بردا وسلاما على جميع الأسرى الذين يئسوا من الحياة، والعودة يوما إلى أهليهم، وامتلأت قلوبهم بمشاعر التقدير والإعجاب والإكبار، تجاه هذه السيدة العظيمة، ذات القلب الرحيم، التي تواجه وحشيتهم بهذا الإحسان المنقطع النظير(.

هذه بعض الشهادات التي أوردها المؤرخ الإنجليزي هنري شرشل في كتابه حياة الأمير عبد القادر*ليبرز هذا الخلق الإسلامي السامي خلق التسامح عند الأمير، وأصالته فيه، باعتباره ثمرة من ثمار التربية الإسلامية التي تلقاها عن والديه الكريمين.

وإني أريد ان أعزز هذه الشهادات، بذكر مأثرة  أخرى رائعة للأمير عبد القادر كان لها صدى عالمي واسع، سجلت له بأحرف من نور في تاريخ التسامح بين الأديان والأجناس، وتقدير الإنسان ..كإنسان، لقد أخمد الأمير عبد القادر سنة 1860 لهيب الفتنة الطائفية التي كادت تعصف بحياة خمسة عشر ألف مسيحي، أشعلتها المؤامرات الأوروبية .

لقد كتب الكثير عن هذا الموقف الإنساني التاريخي للأمير ، وعن إشادة الدول الأوروبية والشخصيات الدينية والعلمية العالمية بشجاعته ونبله وإنسانيته، لكن الذي يهمنا نحن، في هذا المجال، هو تأثير روح التسامح في غير المسلمين الذين يجهلون الإسلام أو يمتلكون عنه صورة باهتة أو مشوهة، فيرونه دين تعصب وتطرف وإكراه

فعندما اشتعلت نار هذه الفتنة في دمشق خرج الأمير شخصيا وقصد محلة النصارى فرأى ألسنة اللهب تخرج من المنازل، والغوغاء بين ناهب وقاتل، فأخذ ينقذ من النصارى من يصل إليه، ولما غصت دور الأمير أخذ يرسلهم إلى القلعة فاجتمع عنده نحو خمسة عشر ألف مسيحي كان يقوم شخصيا بنفقاتهم وطمأنتهم وبذل الأمير من الجهد وتحمل المشاق طوال أربعة عشر يوما من التهاب تلك الفتنة، وهو يسعى ليل نهار إلى إخمادها، حتى كلل الله سعيه بالنجاح ونجا المسيحيون من الهلاك، فتعالت في أرجاء الدنيا أصوات الأحرار من كل دين وجنس تهنئ الأميروتشيد بهذه الروح التي أثمرها الإسلام، روح التسامح، لقد كتب له وزير خارجية فرنسا آنذاك يقول: *أيها الأمير السامي..إن خير الحوادث الشامية قد طرق مسامع الدولة الفرنسية، وإني قد بادرت الآن بإعلان اعتبارها السامي والتشكر.

الوافر من طرف جلالته على السعي الذي تكرمتم به على الأهالي المسيحيين والراهبات والمبعوثين الفرنسيين”من اعظم فرسان الرتبة الامبراطورية الملوكانية المشهورة بالنسر الأبيض، لانقاذ آلاف المسيحيين من أهالي دمشق”، وكتب إليه ملك اليونان، يهنئه ويخصه بالنيشان الكبير، رتبة أولى المدعو بنيشان المخلص.

وأمضى قيصر الروس مرسوما يقضي بتسمية الأمير عبد القادر

وأرسل اليه قنصل دولة انجلترا تهنئة و شكرا جاء فيها:”انني قدج أمرت من الحكومة الانجليزية بأن ابين لكم شعورها التقديري لكم لما أظهرتموه من حقوق الانسانية،بتخليص ألاف المسيحيين الذين لولاكم لهلكوا”

واهالت على الامير بعد ذلك رسائل تهان من جميع  اطراف الدنيا تشيد كلها بهذا الموقف الإنساني الرائع وهذا التسامح الديني الفريد،مع بني قوم سلبوه ارضه وأبادوا شعبه،حتى أن بعض المتطرفين قالوا له :أنت الذي حاربت المسيحيين بالأمس كيف تمنعنا من الاقتصاص منهم سلم لنا اولئك الذين تخفيهم في بيتك، فأجابهم الامير عبد القادر: أن ما تفعلونه عمل شنيع و مخالف لشرع الله أما أنا فإنني لم احارب مسيحيين بل حاربت غزاة زعموا أنهم مسيحيون.

ولعل الامير قد لخص ذلك كله في رده على سماحة أسقف الجزائر الذي بعث إليه رسالة شكر وتقدير وعرفان، بقوله:” إن ما قدمناه من جميل للمسيحيين كان من واجبنا أن نؤديه وفاء للعقيدة الاسلامية واحتراما لحقوق الإنسان”.

إن خلق التسامح الذي يدعو اليه الاسلام،جسده كذلك أحفاد الامير عبد القادر، مجاهدو حرب التحرير الجزائرية سنة 1954 التي استعادت بفضلها الجزائر الاستقلال والحرية والسيادة، أن الذين عاشوا أحداثها عن قرب،وكتبوا عنها من الغربيين ومن الفرنسيين أنفسهم، يعبرون عن الفارق الكبير بين أسلوب جيش الاحتلال الفرنسي في تعذيب الأسرى والتنكيل بالجرحى والتمثيل بجثث القتلى، ومن بين تلك القيم الرفيعة التي كانت تحكم سلوك جيش التحرير الوطني الجزائري، لقد كتب أحد الصحافيين الذين احتكوا بهذا الجيش سنة 1957 يقول “إن ما لاحظته في المناطق التي زرتها،أن جيش التحرير يعامل الأسرى معاملة حسنة،فقد شاهدت بعيني أسيريين فرنسيين يعيشان بين المجاهدين يأكلان مما يؤكلون ويقرأون الصحف”

وصرح نواب المانيون زاروا الجزائر قائلين: “أن جيش التحرير الوطني قد أدهشنا و مللك قلوبنا بمعاملته الإنسانية المنقطعة النظير”كما أشاد بهذا الخلق أحد رجال الدين البروتستانت هو لستر جريفيد الذي أسره جيش التحرير ثم أطلق سراحه، ورجع الى بلده الولايات المتحدة الأمريكية، فراح ينوه بهذه الروح الإنسانية العالية التي وجدها لدى جيش التحرير، مقارنا إياها بوحشية جيش فرنسا المحتل.

هذا وإني إذ أجدد في الختام تهنئتي للمشرفين على هذا المؤتمر المبارك، بتوفيقهم في اختيار هذا الموضوع الهام، موضوع التسامح الديني والحضاري في الإسلام،أسأل الله لأعمالنا النجاح والتوفيق.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *